فصل: قال البقاعي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

في هذه الآية دليل على صِحّة إطلاق أئمتنا على أفعال العباد كَسْبًا وَاكْتِسابًا؛ ولذلك لم يطلقوا على ذلك لا خَلَق ولا خَالِق؛ خلافًا لمن أطلق ذلك من مُجْترِئَة المبتدعة.
ومن أطلق من أئمتنا ذلك على العبد، وأنه فاعل فبالمجاز المحْضِ.
وقال المَهْدَوِيّ وغيره: وقيل معنى الآية لا يؤاخذ أحد بذنب أحد.
قال ابن عطية: وهذا صحيح في نفسه ولكن من غير هذه الآية. اهـ.

.قال ابن جزي:

جاءت العبارة بلها في الحسنات لأنها مما ينتفع العبد به وجاءت بعليها في السيئات لأنها مما يضر بالعبد وإنما قال في الحسنات كسبت وفي الشر اكتسبت لأن في الاكتساب ضرب من الاعتمال والمعالجة حسبما تقتضيه صيغة افتعل فالسيئات فاعلها يتكلف مخالفة أمر الله ويتعداه بخلاف الحسنات فإنه فيها على الجادة من غير تكلف أو لأن السيئات يجد في فعلها لميل النفس إليها فجعلت لذلك مكتسبة ولما لم يكن الإنسان في الحسنات كذلك وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال. اهـ.

.قال البقاعي:

ولما بشرهم بذلك عرفهم مواقع نعمه في دعاء رتبه على الأخف فالأخف على سبيل التعلي إعلامًا بأنه لم يؤاخذهم بما اجترحوه نسيانًا ولا بما قارفوه خطأ ولا حمل عليهم ثقلًا بل جعل شريعتهم حنيفية سمحًا ولا حملهم فوق طاقتهم مع أن له جميع ذلك، وأنه عفا عن عقابهم ثم سترهم فلم يخجلهم بذكر سيئاتهم، ثم رحمهم بأن أحلهم محل القرب فجعلهم أهلًا للخلافة؛ فلاح بذلك أنه يعلي أمرهم على كل أمر ويظهر دينهم على كل دين، إذ كان سبحانه وتعالى هو الداعي عنهم، وليكون الدعاء كله محمولًا على الإصابة ومشمولًا بالإجابة فقال سبحانه وتعالى: {ربنا لا تؤاخذنا} أي لا تفعل معنا فعل من يناظر خصمًا فهو يناقشه على كل صغير وكبير {إن نسينا} أي ففعلنا ما نهيتنا عنه {أو أخطأنا} أي فعلناه ذاكرين له لكنا لم نتعمد سوءًا.
قال الحرالي: والخطأ هو الزلل عن الحد عن غير تعمد بل مع عزم الإصابة أو ودّ أن لا يخطىء، وفي إجرائه من كلام الله سبحانه وتعالى على لسان عباده قبوله- انتهى.
وإعادة ربنا في صدر كل جملة من هذا الطراز كما تقدمت الإشارة إليه في التذكير بعظم المقام في حسن التربية ولطف الإحسان والرأفة.
ولما كان ذلك قد يكون فإن له أن يكلف بما يشاء مع تحميل ما تعظم مشقته من التكاليف فإنه لا يسأل عما يفعل قال: {ربنا ولا تحمل علينا إصرًا} أي ثقلًا.
قال الحرالي: هو العهد الثقيل أي الذي في تحمله أشد المشقة- انتهى.
ثم عظم المنة بقوله: {كما حملته على الذين من قبلنا} إشارة إلى أنه كان حمل على من سبق من الأحكام ما يهدّ الأركان تأكيدًا لما يحمل على الشكر على تخفيف ذلك عنا، وأصل الإصر العاطف، أصره الشيء يأصره: عطفه، ويلزمه الثقل لأن الغصن إذا ثقل مال وانعطف وهو المقصود هنا؛ وتلك الآصار المشار إليها كثيرة جدًا، منها ما في السفر الثاني من التوراة في القربان أنه ينضح من دك الذبيحة على زوايا المذبح، ثم قال: ومن تقرب بذبح ثور أو غيره في مكان غير باب قبة الزمان بيت الرب يعاقب ذلك الرجل عقوبة من قتل قتيلًا لأنه سفك دمًا ويهلك ذلك الرجل من شعبه، ومن أكل دمًا نزل به الغضب وهلك لأن أنفس البهائم هي الدم، وإنما أمروا أن يقربوه على المذبح لغفران خطاياهم وتطهير أنفسهم لأنه إنما يغفر للنفس بالدم، ومن قرب قربانًا أكل منه يوم ذبحه وثانيه، وما بقي في الثالث أحرق بالنار، ومن أكل منه هلك من شعبه؛ ومن ذلك في ذوي العاهات أن من برص من الآدميين يجلس وحده ولا يختلط مع الناس ويكون سكنه خارجًا من محلة بني إسرائيل- حتى ذكر البرص في الثياب والبيوت وغيرها، فما برص من الجلود والثياب يقطع موضع البرص منه، فإن ظهر فيه بعد القطع أحرق كله بالنار، وإن ظهر في بيت برص يهدم وتجمع حجارته وخشبه وترابه خارجًا من القرية ويحرق بالنار؛ وكذا مرض السلس فيه تشديدات كثيرة، منها أن من جلس على ثوب عليه مسلوس يغسل ثيابه ويستحم بالماء ويكون نجسًا إلى الليل- ونحو هذا؛ ثم قال: وكلم الرب موسى وقال له: هذه سنة الأبرص الذي يتطهر: يقدم إلى الكاهن ويخرجه خارجًا من العسكر وينظر الحبر إن كانت ضربة البرص قد برأت وتطهر منها يأمر الحبر فيقدم، ويؤتى بعصفورين حيين زكيين، وعود من خشب الأرز، وعهنة حمراء- وعد أشياء أخرى؛ وقربانًا على كيفية مخصوصة صعبة على عين ماء، ويغسل ثيابه وبدنه، ويحلق شعر رأسه ولحيته وحاجبيه وكل شعر جسده، وأنه يمكث خارجًا من بيته سبعة أيام، وفي اليوم الثامن يأتي بقربان آخر فيقرب على كيفية مخصوصة، وينضح الكاهن من دمه على ثياب وبدن هذا الذي تطهر من البرص، وكذا من زيت قربانه، ويصب بقيته على رأسه.
وكذا في مرض السلس إذا برأ المسلوس يمكث سبعة أيام، ثم يتطهر ويغسل ثيابه، ويقرب قربانًا في باب قبة الزمان.
وقال: وأي رجل أمذى أو خرج منه منيه يغسل جسده كله بالماء، ويكون نجسًا إلى الليل؛ ومن دنا من الحائض يكون نجسًا إلى الليل وأي ثوب أو فراش وقعت عليه جنابة يغسل بالماء ويكون نجسًا إلى الليل وأي ثوب رقدت عليه وهي حائض كان نجسًا، ومن دنا من فراشها يغسل ثيابه ويستحم بالماء ويكون نجسًا إلى الليل، وكذا المستحاضة.
وفيه أيضًا: وكلم الرب موسى وقال له: كلم بني إسرائيل وقل لهم: المرأة إذا حبلت وولدت ذكرًا تكون نجسة سبعة أيام كما تكون في أيام حيضها، وفي اليوم الثامن يختن الصبي، وتكون نجسة وتجلس مكانها ثلاثة وثلاثين يومًا، لا تدنو من شيء مقدس، ولا تدخل بيت الله سبحانه وتعالى لأن الصلاة محرمة عليها حتى تتم أيام تطهيرها؛ فإن ولدت جارية تكون مثل نجاستها في أيام حيضها أربعة عشر يومًا وتجلس مكانها على الدم الزكي ستة وستين يومًا، فإذا كملت أيام تطهيرها ابنًا ولدت أو بنتًا تجيء بحمل حول- فذكر قربانًا في قبة الزمان على يد الكاهن لتطهر مما كان يجري منها من الدم.
ومن الآصار ما في السفر الثاني أيضًا من أنهم إذا حصدوا أرضًا أو قطفوا كرمًا حرم عليهم الاستقصاء وأمروا أن يتركوا للمساكين، ثم قال: ولا تلتقطوا ما ينتثر من زيتونكم بل دعوه للمساكين والذين يقبلون إليّ لأني أنا الله ربكم، ثم قال: فإذا دخلتم الأرض وغرستم فيها كل شجر يثمر ثمارًا تؤكل فدعوها ثلاث سنين ولا تأكلوا من ثمارها، فإذا كان في السنة الرابعة صيروا جميع ثمار شجركم حرمة للرب ومجدًا لإكرامه، وفي السنة الخامسة كلوا ثمارها فإنها تنمو وتزداد لكم غلاتها، أنا الله ربكم! وقال في أواخر السفر الخامس وهو آخر أسفارها: لا تحيفوا على المسكين واليتيم والساكن بينكم في القضاء، ولا تأخذوا ثوب الأرملة رهنًا، واذكروا أنكم كنتم عبيدًا بأرض مصر وأنقذكم الرب من هناك، لذلك آمركم وأقول لكم إنه واجب عليكم أن تفعلوا مثل هذا الفعل، وإذا حصدتم حقل أرضكم ونسيتم حزمة لا ترجعوا في طلب أخذها بل تكون للساكن ولليتيم والأرملة، ليبارك الله ربكم في جميع أعمال أيديكم؛ وإذا نثرتم زيتونكم فلا تطلبوا ما نسيتم في حقلكم بل يكون لليتيم والساكن والأرملة؛ وإذا قطعتم كرومكم لا تستقصوا ما فيها بل دعوها ما يعيش به الساكن واليتيم والأرملة؛ واذكروا أنكم كنتم عبيدًا بأرض مصر، لذلك آمركم أن تفعلوا هذا الفعل- وأما ما على النصارى من ذلك فسيأتي كثير منه إن شاء الله تعالى في المائدة عند قوله تعالى: {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه} [المائدة: 47]. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى حكى عن المؤمنين أربعة أنواع من الدعاء، وذكر في مطلع كل واحد منها قوله: {رَبَّنَا} إلا في النوع الرابع من الدعاء فإنه حذف هذه الكلمة عنها وهو قوله: {واعف عَنَّا واغفر لَنَا}.
أما النوع الأول فهو قوله: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: {لا تؤاخذنا}:
أي لا تعاقبنا، وإنما جاء بلفظ المفاعلة وهو فعل واحد، لأن الناسي قد أمكن من نفسه، وطرق السبيل إليها بفعله، فصار من يعاقبه بذنبه كالمعين لنفسه في إيذاء نفسه، وعندي فيه وجه آخر، وهو أن الله يأخذ المذنب بالعقوبة، فالمذنب كأنه يأخذ ربه بالمطالبة بالعفو والكرم، فإنه لا يجد من يخلصه من عذابه إلا هو، فلهذا يتمسك العبد عند الخوف منه به، فلما كان كل واحد منهما يأخذ الآخر عبر عنه بلفظ المؤاخذة. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} المعنى: أعف عن إثْم ما يقع منا على هذين الوجهين أو أحدهما؛ كقوله عليه السلام: «رفع عن أُمتى الخطأ والنسيان وما استكرِهوا عليه» أي إثم ذلك.
وهذا لم يختلف فيه أن الإثم مرفوع، وإنما اختلف فيما يتعلق على ذلك من الأحكام، هل ذلك مرفوع لا يلزم منه شيء أو يلزم أحكام ذلك كله؟ اختلف فيه.
والصحيح أن ذلك يختلف بحسب الوقائع، فقسم لا يسقط باتفاق كالغرامات والديات والصلوات المفروضات.
وقسم يسقط باتفاق كالقصاص والنّطق بكلمة الكفر.
وقسم ثالث يختلف فيه كمن أكل ناسيًا في رمضان أو حنِث ساهيًا، وما كان مثله مما يقع خطأ ونسيانًا؛ ويعرف ذلك في الفروع. اهـ.

.قال أبو حيان:

{ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} هذا على إضمار القول، أي: قولوا في دعائكم: ربنا لا تؤاخذنا، والدعاء مخّ العبادة، إذ الداعي يشاهد نفسه في مقام الحاجة والذلة والافتقار، ويشاهد ربه بعين الاستغناء والإفضال، فلذلك ختمت هذه الصورة بالدعاء والتضرع، وافتتحت كل جملة منها بقولهم: ربنا، إيذانًا منهم بأنهم يرغبون من ربهم الذي هو مربيهم، ومصلح أحوالهم، ولأنهم مقرون بأنهم مربوبون داخلون تحت رق العبودية والافتقار. اهـ.

.قال ابن عاشور:

والمراد من الدعاء به طلب الدوام على ذلك لئلا يُنسخ ذلك من جراء غضب الله كما غضب على الذين قال فيهم: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم} [النساء: 160].
والمؤاخذة مشتقّة من الأخذ بمعنى العقوبة، كقوله: {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة} [هود: 102] والمفاعلة فيه للمبالغة أي لا تأخذنا بالنسيان والخطأ.
والمراد ما يترتّب على النسيان والخطأ من فِعل أو ترك لا يرضيان الله تعالى.
فهذه دعوة من المؤمنين دعوها قبل أن يعلموا أنّ الله رفع عنهم ذلك بقوله: {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها} وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» وفي رواية: «وضع» رواه ابن ماجه وتكلم العلماء في صحته، وقد حسّنه النووي، وأنكره أحمد، ومعناه صحيح في غير ما يرجع إلى الخطاب الوضع.
فالمعنى رفع الله عنهم المؤاخذة فبقيت المؤاخذة بالإتلاف والغرامات ولذلك جاء في هذه الدعوة {لا تؤاخذنا} أي لا تؤاخذنا بالعقاب على فعلٍ: نسيانٍ أو خطأ، فلا يرد إشكال الدعاء بما عُلم حصوله، حتى نحتاج إلى تأويل الآية بأنّ المراد بالنسيان والخطأ سببهما وهو التفريط والإغفال كما في الكشاف. اهـ.